فصل: تفسير الآيات (44- 46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (44- 46):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)}
الرؤية في قوله: {ألم تر} من رؤية القلب، وهي علم بالشيء، وقال قوم: معناه {الم تعلم} وقال آخرون: {ألم تخبر} وهذا كله يتقارب، والرؤية بالقلب تصل بحرف الجر وبغير حرف الجر، والمراد ب {الذين}: اليهود، قاله قتادة وغيره، ثم اللفظ يتناول معهم النصارى، وقال ابن عباس: نزلت في رفاعة بن زيد بن التابوت اليهودي، و{أوتوا} إعطوا، و{النصيب} الحظ، و{الكتاب}: التوراة والإنجيل، وإنما جعل المعطى نصيباً في حق كل واحد منفرد، لأنه لا يحصر علم الكتاب واحد بوجه، و{يشترون} عبارة عن إيثارهم الكفر وتركهم الإيمان، فكأنه أخذ وإعطاء، هذا قول جماعة، وقالت فرقة: أراد الذين كانوا يعطون أموالهم للأحبار على إقامة شرعهم فهذا شراء على وجهه على هذا التأويل، {ويريدون أن تضلوا السبيل}، معناه أن تكفروا، وقرأ النخعي، {وتريدون أن تضلوا} بالتاء منقوطة من فوق في تريدون.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية وما بعدها، تقتضي توبيخاً للمؤمنين على استنامة قوم منهم إلى أحبار اليهود، في سؤال عن دين، أو في موالاة أو ما أشبه ذلك، وهذا بيّن في ألفاظها، فمن ذلك، {ويريدزن أن تضلوا}، أي تدعوا الصواب في اجتنابهم، وتحسبوهم غير أعداء، والله أعلم بهم، وقوله: {والله أعلم بأعدائكم} خبر في ضمنه التحذير منهم، وبالله، قي قوله: {وكفى بالله} في موضع رفع بتقدير زيادة الخافض، وفائدة زيادته تبيين معنى الأمر في لفظ الخبر، أي اكتفوا بالله، فالباء تدل على المراد من ذلك، {ولياً} فعيلاً، و{نصيراً} كذلك، من الولاية والنصر.
وقوله تعالى: {من الذين هادوا} قال بعض المتأولين {من} راجعة على {الذين} الأولى، فهي على هذا متعلقة ب {تر}، وقالت طائفة، هي متعلقة ب {نصيراً} والمعنى ينصركم من الذين هادوا، فعلى هذين التاويلين لا يوقف في قوله: {نصيراً} وقالت فرقة: هي لابتداء الكلام، وفيه إضمار تقديره قوم يحرفون، هذا مذهب أبي علي، ونظيره قول الشاعر [النابغة الذبياني]: [الوافر]
كأنك مِنْ جِمَالِ أَبي أَقَيْشٍْ ** يُقَعْقِعُ خَلْفَ رِجْليهِ بِشَنِّ

وقال الفراء وغيره: تقديره من، ومثله قول ذي الرمة: [الطويل]
فَظَلُّوا وَمِنْهُمْ دَمْعَهُ سَابِقٌ لَهُ ** وَآخَرُ يَثْني دَمْعَةَ الْعَيْنِ بِالْيَدِ

فعلى هذا التأويل يوقف في قوله: {نصيراً} وقول سيبويه أصوب لأن إضمار الموصول ثقيل، وإضمار الموصوف أسهل، و{هادوا} مأخوذ من هاد إذا تاب أو من يهود بن يعقوب وغيره التعريب، أو من التهود وهو الرويد من المشي واللين في القول، ذكر هذه كلها الخليل، وقد تقدم شرحها وبيانها في سورة البقرة، و{تحريف الكلم} على وجهين، إما بتغيير اللفظ، وقد فعلوا ذلك في الأقل، وإما بتغيير التأويل، وقد فعلوا ذلك في الأكثر، وإليه ذهب الطبري، وهذا كله في التوراة على بول الجمهور، وقالت طائفة: هو كلم القرآن، وقال مكي: كلام النبي محمد عليه السلام، فلا يكون التحريف على هذا إلا في التأويل، وقرأ النخعي وأبو رجاء: يحرفون الكلام بالألف، ومن جعل من متعلقة بنصيراً جعل يحرفون في موضع الحال، ومن جعلها منقطعة جعل يحرفون صفة، وقوله تعالى عنهم {سمعنا وعصينا} عبارة عن عتوهم في كفرهم وطغيانهم فيه، و{مسمع} لا يتصرف إلا من أسمع، و{غير مسمع} يتخرج فيه معنيان: أحدهما غير مأمور صاغر، كأنه قال: غير أن تسمع مأموراً بذلك، والآخر على جهة الدعاء، أي لا سمعت، كما تقول: امض غير مصيب، وغير ذلك، فكانت اليهود إذا خاطبت النبي بغير مسمع، أرادت في الباطن الدعاء عليه، وأرت ظاهراً أنها تريد تعظيمه، قال نحوه ابن عباس وغيره، وكذلك {راعنا} كانوا يريدون منه في نفوسهم معنى الرعونة، وحكى مكي معنى رعاية الماشية، ويظهرون منه معنى المراعاة، فهذا معنى ليّ اللسان فقال الزجّاج: كانوا يريدون: اجعل سمعك لكلامنا مرعى.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا جفاء لا يخاطب به نبي، وفي مصحف ابن مسعود راعونا ومن قال: {غير مسمع} غير مقبول منك فإنه لا يساعده التصريف، وقد حكاه الطبري عن الحسن ومجاهد، و{ليّاً} أصله لوياً، قلبت الواو ياء وأدغمت {وطعناً في الدين} أي توهينا له وإظهاراً للاستخفاف به.
قال القاضي أبو محمد: وهذا الليّ باللسان إلى خلاف ما في القلب موجود حتى الآن في بني إسرائيل، ويحفظ منه في عصرنا أمثلة، إلا أنه لا يليق ذكرها بهذا الكتاب، وقوله تعالى: {ولو أنهم} الآية: المعنى: لو أنهم آمنوا وسمعوا وأطاعوا، واختلف المتأولون في قوله، {وانظرنا} فقال مجاهد وعكرمة وغيرهما: معناه انتظرنا، بمعنى: افهمنا وتمهل علينا حتى نفهم عنك ونعي قولك، وهذا كما قال الحطيئة:
وَقَدْ نَظَرْتُكُمُ إيناءَ صادِرَةٍ ** لِلْخَمْسِ طَالَ بِهَا مَسْحي وَتَنَّاسي

وقالت فرقة: انظر- معناه: انظر إلينا، فكأنه استدعاء اهتبال وتحف، ومنه قول ابن الرقيات [الخفيف]:
ظاهراتُ الجمالِ والْحُسْنِ يَنْظُرْ ** نَ كَمَا تَنْظُرُ الأَرَاكَ الظِّباءُ

{وأقوم} معناه: أعدل وأصوب، {واللعنة}: الإبعاد، فمعناه، أبعدهم من المهدي، و{قليلاً}: نعت، إما لإيمان وإما لنفر أو قوم، والمعنى مختلف، فمن عبر بالقلة عن الإيمان قال: إما هي عبارة عن عدمه على ما حكى سيبويه من قولهم: أرض قل ما تنب كذا وهي لا تنبته جملة، وإما قلل الإيمان لما قلت الأشياء التي آمنوا بها فلم ينفعهم ذلك، وذلك أنهم كانوا يؤمنون بالتوحيد ويكفرون بمحمد وبجميع أوامر شريعه ونواهيها، ومن عبر بالقلة عن النفر قال: لا يؤمن منهم إلا قليل، كعبد الله بن سلام، وكعب الأحبار، وغيرهما، وإذا قدرت الكلام نفراً قليلاً، فهو نصب في موضع الحال وفي هذا نظر.

.تفسير الآيات (47- 48):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آَمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)}
هذا خطاب لليهود والنصارى، و{لما معكم} معناه من شرع وملة، لا لما كان معهم من مبدل ومغير، والطامس: الدائر المغير الاعلام، كما قال ذو الرمة: [البسيط]
من كل نضّاخَةِ الذّفرى إذا عَرِقَتْ ** عُرْضَتُها طامسُ الاعلامِ مجهولُ

ومن ذلك قيل للأعمى المسدودة عيناه: أعمى مطموس، وقالت طائفة: طمس الوجوه هنا: أن تعفى أثر الحواس فيها، وتزال الخلقة منه فيرجع كسائر الأعضاء في الخلو من أعضاء الحواس، فيكون أرد على الأدبار في هذا الموضع بالمعنى، أي خلوه من الحواس دبراً لكونه عامراً بها، وقال ابن عباس وعطية العوفي: طمس الوجوه أن تزال العينان خاصة منها وترد العينان في القفا فيكون ذلك رداً على الدبر ويمشى القهقرى، وحكى الطبري عن فرقة: أن طمس الوجوه أن تتغير أعلامها وتصير منابت للشعر، فذلك هو الرد على الدبر، ورد على هذا القول الطبري، وقال مالك رحمه الله: كان أول إسلام كعب أنه مر برجل من أليل وهو يقرأ هذه الآية: {يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا مصدقاً لما معكم} فوضع كفيه على وجهه ورجع القهقرى إلى بيته، فأسلم مكانه، وقال: والله لقد خفت أن لا أبلغ بيتي حتى يطمس وجهي، وقال مجاهد والحسن والسدي والضحاك: ذلك تجوز، وإنما المراد به وجوه الهدى والرشد، وطمسها حتم الإضلال والصد عنها والتصيير إلى الكفر، وهو الرد على الأدبار، وقال ابن زيد: الوجوه هي أوطانهم وسكناهم في بلادهم التي خرجوا إليها، وطمسها: إخراجهم منها، والرد على الأدبار: هو رجوعهم إلى الشام من حيث أتوا أولاً، و{أصحاب السبت}: هم أهل أيلة الذين اعتدوا في السبت في الصيد، حسبما تقدم، وكانت لعنتهم أن مسخوا خنازير وقردة، قاله قتادة والحسن والسدي: وأمر الله في هذا الموضع واحد الأمور، دال على جنسها، لا واحد الأوامر، فهي عبارة عن المخلوقات كالعذاب واللعنة هنا، أو ما اقتضاه كل موضع مما يختص به.
وقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به} الآية، هذه مسألة الوعد والوعيد، وتلخيص الكلام فيها أن يقال: الناس أربعة أصناف، كافر مات على كفره، فهذا مخلد في النار بإجماع، ومؤمن محسن لم يذنب قطّ ومات على ذلك، فهذا في الجنة محتوم عليه حسب الخبر من الله تعالى بإجماع، وتائب مات على توبته فهو عند أهل السنة وجمهور فقهاء الأمة لاحق بالمؤمن المحسن إلا أن قانون المتكلمين أنه في المشيئة، ومذنب مات قبل توبته، فهذا موضع الخلاف، فقالت المرجئة: هو في الجنة بإيمانه ولا تضره سيئاته، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعيد كلها مخصصة في الكفار، وآيات الوعد عامة في المؤمنين، تقيّهم وعاصيهم.
وقالت المعتزلة: إذا كان صاحب كبيرة فهو في النار ولا بد، وقالت الخوارج: إذا كان صاحب كبيرة أو صغيرة فهو في النار مخلد ولا إيمان له، لأنهم يرون كل الذنوب كبائر، وبنوا هذه المقالة على أن جعلوا آيات الوعد كلها مخصصة في المؤمن المحسن الذي لم يعص قط، والمؤمن التائب، وجعلوا آيات الوعيد عامة في العصاة كفاراً أو مؤمنين، وقال أهل السنة وأحق: آيات الوعد ظاهرة العموم، وآيات الوعيد ظاهرة العموم، ولا يصح نفوذ كلها لوجهه بسبب تعارضها، كقوله تعالى: {لا يصلاها إلا الأشقى الذي كذب وتولى} [الليل: 15-16] وهذه الآية هي الحاكمة ببيان ما تعارض من آيات الوعد والوعيد وقوله: {ومن يعص الله ورسوله فإن له نار جهنم} [الجن: 23] فلابد أن نقول: إن آيات الوعد لفظها لفظ عموم، والمراد بها الخصوص في المؤمن المحسن، وفي التائب، وفيمن سبق في علمه تعالى العفو عنه دون تعذيب من العصاة، وأن آيات الوعيد لفظها عموم، والمراد بها الخصوص في الكفرة وفيمن سبق في علمه تعالى أنه يعذبه من العصاة، وتحكم بقولنا: هذه الآية النص في موضع النزاع، وهي قوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} فإنها جلت الشك وردت على الطائفتين، المرجئة والمعتزلة، وذلك أن قوله تعالى {إن الله لا يغفر أن يشرك به} فصل مجمع عليه، وقوله: {ويغفر ما دون ذلك} فصل قاطع بالمعتزلة راد على قولهم رداً لا محيد عنه، ولو وقفنا في هذا الموضع من الكلام لصح قول المرجئة، فجاء قوله: {لمن يشاء} راداً عليهم، موجباً أن غفران ما دون الشرك إنما هو لقوم دون قوم، بخلاف ما زعموه من أنه مغفور لكل مؤمن.
قال القاضي ابو محمد: ورامت المعتزلة أن ترد هذه الآية إلى قولها، بأن قالوا: من يشاء هو التائب، وما أرادوه فاسد، لأن فائدة التقسيم في الآية كانت تبطل، إذ التائب من الشرك يغفر له.
قال القاضي أبو محمد: ورامت المرجئة أن ترد الآية إلى قولها، بأن قالوا: {لمن يشاء} معناه: يشاء أن يؤمن، لا يشاء أن يغفر له، فالمشيئة معلقة بالإيمان ممن يؤمن، لا بغفران الله لمن يغفر له، ويرد ذلك بأن الآية تقتضي على هذا التأويل أن قوله: {ويغفر ما دون ذلك} عام في كافر ومؤمن، فإذا خصص المؤمنون بقوله: {لمن يشاء} وجب أن الكافرين لا يغفر لهم ما دون ذلك، ويجازون به.
قال القاضي أبو محمد: وذلك وإن كان مما قد قيل- فهو مما لم يقصد بالآية على تأويل أحد من العلماء، ويرد على هذا المنزع بطول التقسيم، لأن الشرك مغفور أيضاً لمن شاء الله أن يؤمن.
قال القاضي أبو محمد: ومن آيات الوعيد التي احتج بها المعتزلة، قوله تعالى: {ومن يقتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً} [النساء: 93] والآية مخرجة عنهم لوجوه، منها: أن الأصح في تأويل قوله تعالى {متعمداً} ما قال ابن عباس: إنه أراد مستحلاً، وإذا استحل أحد ما حرم الله عليه فقد كفر، ويدل على ما قال ابن عباس: إنّا نجد الله تعالى في أمر القتل إذا ذكر القصاص لم يذكر الوعيد، وإذا ذكر الوعيد بالنار لم يذكر القصاص، فيظهر أن القصاص للقاتل المؤمن العاصي، والوعيد للمستحل الذي في حكم الكافر، ومنها من جهة أخرى أن الخلود إذا لم يقرن بقوله أبداً فجائز أن يراد به الزمن المتطاول، إذ ذلك معهود في كلام العرب، ألا ترى أنهم يحيّون الملوك بخلد الله ملكك، ومن ذلك قول امرئ القيس: [الطويل]
وَهَلْ يَعِمَنْ إلاّ سعيدٌ مُخَلَّدٌ ** قَليلُ الهمومِ ما يَبِيتُ بِأَوْجَالِ

وقال عبد الله بن عمرو لما نزلت {قل يا عبادي الذي أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله، إن الله يغفر الذنوب جميعاً} [الزمر: 53] قال بعض أصحاب النبي عليه السلام: والشرك يا رسول الله، فنزلت: {إن الله لا يغفر أن يشرك به، ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء} ولما حتم على أنه لا يغفر الشرك ذكر قبح موضعه وقدره في الذنوب، والفرية: أشد مراتب الكذب قبحاً، وهو الاختلاق للعصبية.

.تفسير الآيات (49- 52):

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)}
هذا لفظ عام في ظاهره، ولم يختلف أحد من المتأولين في أن المراد اليهود، واختلف في المعنى الذي به {زكوا أنفسهم}، فقال قتادة والحسن: ذلك قولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] وقولهم: {لا يدخل الجنة إلا من كان هوداً} [البقرة: 111] وقال الضحاك والسدي: ذلك قولهم: لا ذنوب لنا وما فعلناه نهاراً غفر ليلاً، وما فعلناه ليلاً غفر نهاراً، ونحن كالأطفال في عدم الذنوب، وقال مجاهد وأبو مالك وعكرمة: تقديمهم أولادهم الصغار للصلاة لأنهم لا ذنوب لهم.
قال المؤلف: وهذا يبعد من مقصد الآية وقال ابن عباس: ذلك قولهم أبناؤها الذين ماتوا يشفعون لنا ويزكوننا، وقال عبد الله بن مسعود: ذلك ثناء بعضهم على بعض، ومدحهم لهم وتزكيتهم لهم.
قال القاضي أبو محمد: فتقتضي هذه الآية الغض من المزكي لنفسه بلسانه، والإعلام بأن الزاكي المزكى من حسنت أفعاله وزكاه الله عز وجل، والضمير في {يزكون} عائد على المذكورين ممن زكى نفسه أو ممن يزكيه الله تعالى، وغير هذين الصنفين علم أن الله تعالى لا يظلمهم من غير هذه الآية، وقرأت طائفة {ولا تظلمون} بالتاء على الخطاب، {والفتيل}: هو ما فتل، فهو فعيل بمعنى مفعول، وقال ابن عباس وعطاء ومجاهد وغيرهم: {الفتيل}: الخيط الذي في شق نواة التمرة، وقال ابن عباس وأبو مالك والسدي: هو ما خرج من بين إصبعيك أو كفيك إذا فتلتهما، وهذا كله يرجع إلى الكناية عن تحقير الشيء وتصغيره، وأن الله لا يظلمه، ولا شيء دونه في الصغر، فكيف بما فوقه، ونصبه على مفعول ثان ب {يظلمون}.
وقوله تعالى: {انظر كيف يفترون} الآية، يبين أن تزكيتهم أنفسهم كانت بالباطل والكذب، ويقوي أن التزكية كانت بقولهم {نحن أبناء الله وأحباؤه} [المائدة: 18] إذ الافتراء في هذه المقالة أمكن و{كيف} يصح أن يكون في موضع نصب ب {يفترون}، ويصح أن تكون في موضع رفع بالابتداء، والخبر في قوله: {يفترون} و{وكفى به إثماً مبيناً} خبر في مضمنه تعجب وتعجيب من الأمر، ولذلك دخلت الباء لتدل على معنى الأمر بالتعجب، وأن يكتفى لهم بهذا الكذب إثماً ولا يطلب لهم غيره، إذ هو موبق ومهلك و{إثماً} نصب على التمييز.
وقوله تعالى: {ألم تر إلى الذين} الآية، ظاهرها يعم اليهود والنصارى، ولكن أجمع المتأولون على أن المراد بها طائفة من اليهود، والقصص يبين ذلك، واختلف في {الجبت والطاغوت}، فقال عكرمة وغيره: هما في هذا الموضع صنمان كانا لقريش، وذلك أن كعب بن الأشرف وجماعة معه وردوا مكة محرضين على قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالت لهم قريش: إنكم أهل الكتاب، ومحمد صاحب كتاب، ونحن لا نأمنكم أن تكونوا معه، إلا أن تسجدوا لهذين الصنمين اللذين لنا، ففعلوا، ففي ذلك نزلت هذه الآية، وقال ابن عباس: {الجبت} هنا: حيي بن أخطب {والطاغوت}: كعب بن الأشرف.
فالمراد على هذه الآية القوم الذين كانوا معهما من بني إسرائيل لإيمانهم بهما واتباعهم لهما، وقال ابن عباس: {الجبت} الأصنام، {والطاغوت} القوم المترجمون عن الأصنام، الذين يضلون الناس بتعليمهم إياهم عبادة الأصنام، وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: {الجبت} السحر، {والطاغوت}: الشيطان، وقاله مجاهد والشعبي، وقال زيد بن أسلم: {الجبت}: الساحر، {والطاغوت}: الشيطان، وقال سعيد بن جبير ورفيع: {الجبت}: الساحر، و{الطاغوت}: الكاهن، وقال قتادة: {الجبت}: الشيطان، والطاغوت: الكاهن، وقال سعيد بن جبير أيضاً: الجبت: الكاهن، والطاغوت: الشيطان، وقال ابن سيرين: {الجبت}: الكاهن، {والطاغوت}: الساحر، وقال مجاهد في كتاب الطبري: {الجتب}: كعب ابن الأشرف، والطاغوت الشيطان كان في صورة إنسان.
قال ابن عطية: فمجموع هذا يقتضي أن {الجبت والطاغوت} هو كل ما عبد وأُطيع من دون الله تعالى، وكذلك قال مالك رحمه الله: الطاغوت كل ما عبد من دون الله تعالى، وذكر بعض الناس أن الجبت: هو من لغة الحبشة، وقال قطرب: {الجبت} أصله الجبس، وهو الثقيل الذي لا خير عنده، وأما {الطاغوت} فهو من طغى، أصله طغووت وزنه فعلوت، وتاؤه زائدة، قلب فرد فلعوت، أصله طوغوت، تحركت الواو وفتح ما قبلها فانقلبت ألفاً، وقوله تعالى: {ويقولون للذين كفروا} الآية سببها، أن قريشاً قالت لكعب بن الأشرف حين ورد مكة: أنت سيدنا وسيد قومك، إنّا قوم ننحر الكوماء، ونقري الضيف، ونصل الرحم، ونسقي الحجيج، ونعبد آلهتنا الذين وجدنا أباءنا يعبدون، وهذا الصنبور المنبتر من قومه قد قطع الرحم، فمن أهدى نحن أو هو؟ فقال كعب: أنتم أهدى منه وأقوم ديناً، فنزلت هذه الآية، قاله ابن عباس: وحكى السدي: أن أبا سفيان خاطب كعباً بهذه المقالة، فالضمير في {يقولون} عائد على كعب على ما تقدم- أو على الجماعة من بني إسرائيل التي كانت مع كعب، لأنها قالت بقوله في جميع ذلك على ما ذكر بعض المتأولين، و{الذين كفروا} في هذه الآية هم قريش، والإشارة ب {هؤلاء} إليهم، و{أهدى}: وزنه أفعل وهو للتفضيل، و{الذين آمنوا}: هم النبي عليه السلام وأمته، و{سبيلاً} نصب على التمييز، وقالت فرقة: بل المراد في الآية من بني إسرائيل هو حيي بن أخطب وهو المقصود من أول الآيات، والمشار إليه بقوله: {أولئك} هم المراد من بني إسرائيل، فمن قال: كانوا جماعة فذلك مستقيم لفظاً ومعنى، ومن قال: هو كعب أو حيي، فعبر عنه بلفظ الجمع، لأنه كان متبوعاً، وكان قوله مقترناً بقول جماعة.
و{لعنهم} معناه: أبعدهم من خيره ومقتهم، ومن يفعل الله ذلك به ويخذله فلا ناصر له من المخلوقين، وإن نصرته طائفة، فنصرتها كلا نصرة، إذ لا تغني عنه شيئاً.